يمتاز وصف الادريسي بببلاد التي زارها أو المدن التي
اجتازها بطابع معين يميزه التقطن الشديد لكل ما تقع عليه العين من انسان
وجمــــاد وحيوان ونبات .. فهو دائما وخاصة
حين يصف مشاهداته الخاصة منفتح العين والذهن على كل ما يراه ولا يكاد يغيب
عنه مشهد أو موقع أو ظاهرة طبيعية أو صناعية مما يمر عليه ..
وتتجلى هذه المميزات في البلاد والمدن التي رآها وجال
في أنحائها فهو ينقل صفة البلدان التي لم يزرها فيختار من المشاهد ما يكون
له آثر وقيمة في نفس القاريء أو يثير فيه نوعا معينا من الفضول والاستطلاع
..
ولا شك أن الادريسي قد زار الأندلس زيارات فاحصة دارسة وزار المغرب وطاف
بكثير من أرجائه كما جال في جزيرة صقلية التي أقام فيها زمانا ومن هنا كانت
أوصافه لهذه الأقطار تتميز بالدقة والملاحظة ..
ويبدو اهتمام الادريسي بسكان البلاد التي زارها ووصف أشكالهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم وطبعهم الخاص . ففي حديثه عن مدينة البصرة المغربية في القسم الخاص بالأندلس من كتاب ( نزهة المشتاق )
يتحدث عن سورها وقراها وعماراتها وغلاتها وهوائها المعتدل ولكنه لا يفوته
أن يتحدث عن أهلها فيصفهم بأنهم ( أعفاء ولهم جمال وحسن وأدب ) . وهو هنا
يجمع بين محاسن الخلق...
وفي حديثه عن مدينة ( أنزلان ) بالمغرب ينتهي به الحديث عن سكانها الأوائل من " غمارة " الذين ( طهر
الله منهم الأرض وآفنى جمعهم وخرب ديارهم وأصرارهم على الزنا المباح
والمواربة الدائمة وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق وذلك جزاء الظالمين ).
وينتقل بنا الادريسي الى مدينة شلب الأندلسية التي تبعد عن شنت مارية ثمانية عشر ميلا فيخص أهلها ببعض الصفات المميزة لهم فهم ( عرب
من اليمن وغيرها وهم يتكلمون بالكلام العربي الصريح ويقولون الشعر وهم
فصحاء نبلاء خاصتهم وعامتهم وأهل بوادي هذا البلد في غاية من الكرم لا
يجاريهم فيه أحد .. )
وهكذا يبرز لنا الادريسي في أهل مدينة بالأندلس ناحية فصاحتهم وانطلاق ألسنتهم ونظمهم للشعر وتكلمهم باللسان العربي الصريح ..
وقد يكون لكثير من المدن التي يصفها الادريسي تاريخ سياسي فلا يفوت هذا الرجل أن يشير اليه في خلال وصفه . فحين حديثه عن المدينة الخضراء بالأندلس سجل بعض لقطات من تاريخها السياسي فقال : (
والجزيرة الخضراء أول مدينة افتتحت من الأندلس في صدر الاسلام وذلك في سنة
تسعين من الهجرة وافتتحها موسى بن نصير من قبل المروانيين ومعه طارق بن
عبد الله بن ونموا الزناتي ومعه قبائل البربر فكانت هذه المدينة أول مدينة
افتتحت في ذلك الوقت ).
ولا تخطي عين الادريسي وصف المعالم والمشاهد وأماكن العبادة سواء أكانت مساجد . أم كنائس . فهو يصف المسجد الجامع بقرطبة فيطيل فيه بعض الاطالة على قدر حظه من الفخامة ويقول فيه : ( وفيها
المسجد الجامع الذي ليس بمساجد المسلمين مثله بنية وتنميقا وطولا وعرضا
وطول هذا الجامع مائة باع مرسلة وعرضه ثمانون باعا وصفه مسقف ونصفه صحن
للهواء وعدد قسي مسقفه 19 قوسا وفيه من السواري أعني سواري مسقفة بين
أعمدته وسواري قبلته صغارا وكبارا مع سواري القبة الكبرى وما فيها ألف
سارية وفيها 113 ثريا للوقيد أكبرها واحدة منها تحمل ألف مصباح وأقلها تحمل
12 مصباحا ... ولهذا المسجد قبلة يعجز الواصفين وصفها وفيها اتقان يبهر
العقول تنميقها وكل ذلك من الفسيفساء المذهب والملون )
ويمضي الادريسي هكذا في وصف المحراب والمنبر والساباط
وصومعة الأذان والمصحف الكبير الذي يرفعه رجلان لثقله وفيه أربع أوراق من
مصحف عثمان ابن عفان الذي خط بيمينه وفيه نقطة من دمه .
وقد وصف الادريسي القناطر ومنها القنطرة العجيبة غربي
مدينة لاردة بالأندلس كما وصف المرآة الغريبة التي أقامتها الملكة لاردة
بنت هرسوس في برج عال من القصر يدور على حرفه فتدور معه المرآة كما وصف
الحمامات التي كانت في بعض المدن كحمامات مدينة لشبونة الحارة في الشتاء
والصيف ..
وتأخذ الأسواق العامة والخاصة مكان الاهتمام عند
الادريسي ففي حديثه عن مدينة سبتة بالمغرب يشير الى شجر المرجان فيها الذي
لا يعدله صنف من صنوف المرجان المستخرج بجميع أقطار البحار ثم يفضي به
الحديث الى سوق المرجان فيقول : ( وبمدينة
سبتة سوق لتفصيله وحكه وصنعه خرزا وثقبه وتنظيمه ومنا يتجهز به الى سائر
البلاد . وأكثر ما يحصل الى غانة وجميع بلاد السودان لأنه في تلك البلاد
يستعمل كثيرا ) ..
وحين يمر من طنجة الى بلدة أزيلا فانه يتحدث عن الأسواق القريبة منها وكذلك تلفت نظرة كثيرة الأسواق في مدينة ( اشبيليه ) بالأندلس فيقول عنها : ( ومدينة اشبيلية مدينة كبيرة عامرة ذات أسوار حصينة وأسواق كثيرة وبيع وشراء ) ويخرج من اشبيلية الى مدينة أخرى فيتحدث عن الأسواق والتجارة فيها ..
وكما يهتم الادريسي بالتجارة والغلات فانه يهتم في كل بلد بالحديث عن أهم الصناعات فيه ..
ففي مدينة سبتة بالمغرب تقوم صناعة المراكب وانشاء
السفن وفي مدينة ( حصن قليبرة ) الأندلسية تقوم صناعة السفن ( لأنها دار
انشاء السفن ومنها تخرج السفن الى أقصى الشرق ومنها يخرج الأسطول للغزو ).
.. وفي مدينة ( شاطبة ) بالأندلس ( يعمل من الكاغد ما لا يوجد له نظير
بمعمور الأرض ويعم المشارق والمغارب )
وفي مدينة ( حصن بكيران )
بالأندلس ( تصنع ثياب بيض تباع بالأثمان الغالية ويعمر الثوب منها سنين
كثيرة وهي من أبدع الثياب متانة ورقة حتى لا يفرق بينها وبين الكاغد في
الرقة والبياض ) ... وفي مدينة ( جنجالة ) الأندلسية يصنع من وطاء الصوف ما
لايمكن صنعه في غيرها لمناسبة الماء والهواء اللازمان لصناعته .
وفي مدينة ( المرية )
بالأندلس تعمل الثياب والحلل والديباج والسقلاطون ( النسيج الفاخر )
والأصبهاني والجرجاني والستور المكللة والثياب المعنية والخمر والعتابي
والمعاجر وأصناف من أنواع الحرير ...
ومن هنا يبدي الادريسي اهتماما خاصا بمصايد
الأسماك واللؤلؤ والمرجان وحين أيضا يتحدث عن الأنهار التي يصفها فانه يصف
مجاريها واتجاهاتها ومنابعها وماءها وضفافها وما عليها من زراعات وأشجار ..