هذه القصة هي اول موضوع لي لذا امل ان يعجبكم
(أسوان) الساحرة..
حيث النيل المتلألأ تحت أضواء القمر البلوري، وأضواء المراكب البديعة التي تتهادى على سطحه ..
(أسوان) حيث عبق التاريخ، وأثار الفراعنة، وأصالة أهلها، ورائحة أمجادها ..
هبطت بخطوات بطيئة من القطار، وتمطيت كهرة كسولة من تأثير الرحلة الطويلة على عضلات جسدي .. وخرجت أبحث عن مواصلة تقوم بتوصيلي إلى فندق (سلسبيلة) .. وجدت عربات كثيرة من نوعية (الكارتة)؛ فانتقيت منها واحدة، وذهبت إليها، وأنا أقول لسائقها النوبي العجوز:
- فندق (سلسبيلة) .
أشار لي السائق أن أركب .. وضعت حقيبتي الوحيدة، وجلست جوارها، وسرعان ما دوى صوت فرقعة كرباج في الهواء، ثم أعقبه صهيل الحصان،وبدأت العربة في التحرك ..
تأملت الطريق الترابي، وقد منحه الليل هدوءا وجمالاً محببين إلى النفس، ولمحت على مبعدة – من بين الأشجار – شريان النيل الخالد يجري بنعومة ورقة ..
كنت مدعو – بصفتي الصحفية- لتغطية بعثة أثرية تنقب عن الأثار الفرعونية .. لابد أنكم لمحتم اسمي مرة على الأقل يتصدر مقالة عن الأثار المصرية .. لا .. هذا عجيب !! ظننت أنني معروفاً بعض الشيء .. أحم .. حسناً .. أنا أدعى (أسامة الزيني) صحفي بأحد الجرائد القومية، ولي صفحة كاملة أتكلم فيها عن أثار مصر المتنوعة .. تنقلت داخل القطر المصري كثيراً لعمل تحقيقات صحفية، التي كان هدفها الأساسي هو تعريف القراء بعظمة أمجاد أجدادنا القدماء .. ليس الأمر مقتصراً بالطبع على الأثار الفرعونية .. فهناك الأثار الإسلامية، واليونانية،و...و...ألخ .. وحتى الأثار القريبة العهد لنا؛ كبرج القاهرة، ومسجد الأزهر الشريف .. في الحقيقة كنت أشعر دائماً أنني أقوم بعمل قومي نبيل، وأرجو أن أكون على حق ..
كما قلت سابقاً " كنت مدعو لتغطية بعثة تنقب عن الأثار الفرعونية" .. لقد هاتفني صديقي (صلاح) المشرف على هذه البعثة، وزف لي نبأ قرب عثورهم على مقبرة فرعونية كاملة .. البعثة كلها من الأجانب .. لكن كما تعلمون لابد من أن تعمل تحت إشراف هيئة الأثار المصرية؛ حتى لا يتم تسريب بعض الأثار إلى الخارج .. وهذا كان تخصص صديقي، ومعه مساعد ما ! ومترجم أيضاً إذا أستدعت الحاجة إليه ..
توقفت العربة أمام الفندق الصغير الجميل الهيئة، وترجلت منها بعد أن نقدت السائق أجره، ثم حملت حقيبتي، وتوجهت إلى داخل الفندق .. لابد لي من بعض الراحة؛ فالغد سيحمل لي الكثير من العمل والجهد .
***
كانوا يحفرون قلب الجبل .. ضربة وراء ضربة، تتناثر الأتربة، وتتساقط الصخور.. كانوا خمسة من الرجال الأشداء يحفرون بهمة، وقوة، ونشاط .. وكان الحر قائظاً، والشمس ملتهبة ترسل نيرانها لتزيد من حرارة الأجساد، التي غمرها العرق الغزير ..
رفعت زجاجة بلاستيكية لأروي عطشي، لكن الماء الساخن زادني عطشاً، وزاد جوفي سخونة..
قلت بخمول من تأثير الحر:
- لم أكن أعلم أن الشمس حارقة هكذا في فصل الربيع !!
ربت صديقي (صلاح) على كتفي، وقال مواسياً :
- لا تنسى أننا قريبين من خط الأستواء، والشمس تكون حارقة للغاية، وللأسف لن نجد في هذه الأرض القاحلة أية قطعة ظليلة .. لكن أبشر يا صديقي .. لقد أقتربنا كثيراً من باب المقبرة .
ألتفت إليه، وأنا أخرج منديلاً كي أمسح به العرق الغزير الذي ملأ وجهي، ثم أشرت إلى عدد من الخيام، وقلت بإرهاق :
- ألا يمكن أن نستظل داخل هذه الخيام ؟
هز صديقي رأسه نافياً، وقال بلهجة العالم ببواطن الأمور :
- لا .. هذه الخيام تحبس حرارة الشمس داخلها .. ببساطة أكثر هي قد صارت الآن كالموقد المشتعل.. ولو مكثنا داخلها سيكون الوضع أسوء بكثير .
ثم أشار إلى الرجال الذين يحفرون الجبل، وقال :
- أنظر إلى هؤلاء الرجال كيف يتحملون قسوة الطبيعة، وحرارة الشمس الملتهبة .. تحمل قليلاً مثلهم، وصدقني لقد قارب الأمر على الإنتهاء .
تأملت قلب الجبل الذي لم يتأثر كثيراً بضرباتهم القوية، وقلت بلهجة ساخرة :
- يبدو أن هذا سيحدث بعد شهر من الآن .
خزلني أحد الرجال عندما صاح :
- لقد وجدنا البوابة.
أسرع صديقي يركض باتجاه البعثة، وتحدث معهم بكلمات سريعة؛ ليهرعوا جميعاً بعد ذلك في أتجاه البوابة المكتشفة ..
أخرجت من حقيبتي الجلدية كاميراً صغيرة؛ لألتقط بها بعض الصور، وهرعت خلفهم بحماسة، وقد تناسيت حرارة الشمس.. وما أن وصلت إلى حيث يقفون حتى شعرت بعظمة الفراعنة .. لقد كان جزءاً صغيراً فقط يظهر من البوابة، لكن على هذا الجزء شاهدت النقوش والرسومات الفرعونية الملونة، والتي بدت وكأنها نقشت بالأمس فقط .. ألاف السنين مرت على هذه المقبرة، لكنها ظلت صامدة بأثارها ونقوشها حتى الآن .. كم أشعر بالفخر كثيراً؛ فهؤلاء هم أجدادي العظماء ..
تحسس أحد رجال البعثة الأجانب النقوش بحنان مبالغ فيه، ثم أشار إلى الرجال أن يواصلوا الحفر.. بينما أخرج هو فرشاة متوسطة الحجم أخذ يزيل بها الأتربة من على الواجهة المكتشفة للبوابة..
واصل الرجال الحفر بناء على توجيهات (الخواجة) كما ينعتونه، وشيئاً فشيئاً بدأت البوابة بالكامل في الظهور .. كانت كبيرة الحجم نسبياً، تبلغ حوالي أربعة أمتار طولاً، وثلاثة أمثار عرضاً ..
أشار (الخواجة) للرجال أن يتوقفوا عن العمل، ثم أشار لرجال بعثته لبدء عملهم، الذي كان إزالة الأتربة بعناية شديدة عن واجهة البوابة، والأستعداد لفتحها .. بينما أخذت أنا ألتقط صوراً للبوابة، ولرجال البعثة وهم يعملون..
اقترب (صلاح) مني، وربت على كتفي مشجعاً، وهو يقول :
- ها قد أكتشفنا البوابة يا صديقي .
واصلت التصوير بعناية واهتمام، وأنا أقول :
- وماذا بعد ؟
مسح العرق الغزير من على وجهه بمنديل ورقي صغير، ثم قال :
- سنفتح البوابة بالطبع، ونحصي الأثار .
تأملته متعجباً، وأنا أقول :
- ولماذا ستحصونها ؟!
ابتسم على الرغم منه، وقال:
- وكأن هذه المرة الأولى لك .
بادلته الابتسامة قائلاً :
- هي أول مرة فعلاً .. فلم أكن سابقاً مع بعثة أستكشاف .. كل تحقيقاتي عن أثار موجودة بالفعل .
هز رأسه متفهماً، وقال:
- سنحصي الأثار كي لا يتم سرقتها، وأيضاً إستعداداً لتسليمها إلى هيئة الأثار؛ ليتم نقلها إلى مخازنها إستعداداً لعرضها على الجمهور بالمتحف المصري.
سألته متعجباً، وأنا أشير إلى أفراد البعثة الأجنبية:
- وماذا عنهم ؟!
هز كتفيه بعدم فهم، وقال متسائلاً :
- وماذا عنهم؟!
ثم أدرك مغزى سؤالي؛ فأجاب:
- سيعودون إلى بلادهم بالتأكيد .. هل كنت تعتقد أننا سنمنحهم بعضاً من أثارنا ؟!
هززت رأسي، وقلت:
- كلا بالطبع .. لكن بماذا سيستفيدون بعد كل كدهم وتعبهم هذا ؟
عاد صديقي لمسح عرقه، وقال:
- سيقومون بإصدار كتاب على غرار "مغامرتنا الإستكشافية للأثار الفرعونية" .. هم لا يبحثون عن المال؛ بل يبحثون عن مجد تاريخي، كما فعل سابقاً (هاورد كارتر) العالم الأثري الذي أكتشف مقبرة (توت عنخ آمون).. هذا هو كل ما يهمهم .
قلت له بلهجة متوترة:
- بمناسبة ذكر مقبرة (توت عنخ آمون) .. هل تعتقد أننا سنقابل لعنة ما ؟!
انطلق يضحك بقوة، وهو يقول :
- لا تقل لي أنك تعتقد في مثل هذه الخزعبلات .
طأطأت رأسي بحرج، وقلت مرتبكاً :
- أنا لم أقابل لعنة من قبل .. لكن الأحتياط واجب و.......
قاطعنا فجأة مساعد (صلاح)، وهو يقول :
- أفراد البعثة يقومون الآن بفتح البوابة .
هرع صديقي وأنا خلفه؛ لمتابعة هذا الحدث التاريخي .. أخرجت الكاميرا إستعداداً للتصوير.. بينما تقدم صديقي بين أفراد البعثة؛ ليمد لهم يد العون .. وبدأ الجميع يدا واحدة في فتح البوابة ..
بدأت البوابة تتزحزح من مكانها، وبدأت الأتربة بالتساقط.. وما أن انزاح جزءاً صغيراً من البوابة حتى تعالى صوت صفير مكتوم، أعقبه موجة ساخنة كريهة الرائحة ..
هتف صديقي معللاً :
- الهواء داخل المقبرة سجين منذ ألاف السنين؛ لذلك عند خروجه تعالى صوت الصفير هذا، مختلطاً بالموجة الساخنة .
هززت رأسي متفهماً، وواصلت ألتقاط الصور .. وجدير بالذكر أن أذكر لكم أن كاميرتي من النوع الرقمي الحديث، ولا تحدث فلاشاً .. لأنني علمت سابقاً أن فلاش الكاميراً يفسد شيئاً ما بالأثار!
أنفتحت البوابة بالكامل بعد جهد جهيد، ومن خلفها ظهر للعيان القطع الأثرية الموضوعة في أرجاء المقبرة، والتابوت الحجري المهيب.. لكن ما لفت نظري تحديداً كانت تلك المسلة، التي تقف منتصبة وسط المقبرة تماماً، وبالقرب من البوابة .. كانت تحفة فنية بكل المقاييس بتلك النقوش المتناثرة على سطحها، وبطولها الفريد الذي لا يتجاوز الثلاثة أمتار إرتفاعاً ..
لفتت المسلة الحجرية أنظار رجال البعثة أيضاً، وتحسسها أحدهم، وهو يقول بلغته الأجنبية:
- لم أرى مطلقاً مسلة بهذا الجمال وبهذا الطول .. جميع المسلات ذات إرتفاع شاهق، والنقوش عليها ليست بهذه الوفرة.
كانت لغته أمريكية؛ لذلك فهمت ما يقوله بسهولة.. سألته بذات اللغة :
- هل عرفت من صاحب هذه المقبرة ؟
هز راسه نافياً، وأشار إلى النقوش العديدة التي تملأ الجدران، وقال:
- ليس قبل أن نقوم بفك هذه الرموز .. لكن على الأرجح هذه المقبرة ملكية.
ثم أشار بيده إلى الكنوز العديدة، وقال:
- الكهنة والشعب لايتم دفن كل هذه الكنوز معهم .
دلفت إلى داخل المقبرة أواصل التقاط الصور، ثم توجهت إلى صديقي قائلاً :
- والآن ماذا ؟
أجابني بنبرة مرهقة:
- سيقبع أحد الحراس أمامها لحراستها، وسنقوم بالجرد غداً صباحاً.
ثم أشار إلى السماء قائلاً:
- الليل قارب على المجيء، والمقبرة تحتاج إلى التهوية.. نقص الأكسجين قد يصيب من يمكث داخلها بالأغماء.
أومأت برأسي متفهماً، وقلت بارتياح :
- هذا أفضل كثيراً .. سأذهب لأنعم بحمام منعش، وببعض الراحة .
صافحته مودعاً، وذهبت في طريقي إلى الفندق مترجلاً؛ فلحسن حظي كان قريباً من هنا للغاية .
***
استيقظت في السابعة مساءً، وأنا أشعر بإرهاق شديد.. نهضت متكاسلاً وجوفي يئن من الجوع؛ فلم أكن قد تناولت غدائي بعد.. تثاءبت بقوة، ورفعت سماعة الهاتف لأطلب طعاماً أسكن به جوعي، ثم نهضت مفكراً "ماذا أفعل طوال المساء؟"
فكما تعرفون أن عملي لن يبدأ قبل الصباح.. قررت بعد أن أنتهي من طعامي أن أخرج للتنزه قليلاً، وربما أجد مقهى ما أجلس عليه، أو أهاتف صديقي ليقضي معي بعض الوقت..
جاءني الطعام، وانتهيت منه سريعاً، ثم نهضت لأغير ملابسي استعداداً للخروج ..
انفتحت النافذة بغتة اثر موجة هواء شديدة.. كنت قد تناسيت أن الرياح الخماسينية بـ(أسوان) تكون أقوى في شدة هبوبها من تلك التي تهب على العاصمة.
فجأة تعالى ذلك الصوت الذي جعل جسدي يقشعر، ويرتعش خوفاً .. كان صوت عويل ما !!
عويل حاد ومرعب للغاية ..
عاووووووووووووو
كان أشبه بعويل الذئاب عند شعورها باقتراب خطر ما، أو بنواح الكلاب الحزين، لكنه يختلف قليلاً .. كأنه عويل ذئاب مختلطاً بزئير أسود، وأنين فيلة .. كان صوتاً مرعباً بكل ما تحملة الكلمة من معنى ..
عاوووووووووووووووووو
تعالى الصوت بدرجة أعلى بكثير، حتى أنه كاد أن يمزق طبلتي أذني .. نظرت بحذر من النافذة لألمح رجالاً تركض بلا وعي .. فدب بي الخوف بدرجة أعلى وأكبر ..
أغلقت النافذة كي أخفف من حدة الصوت، لكن الصوت كان له قدرة عجيبة على اختراق الجدران، والوصول إلى بنفس الدرجة من العلو ..
عاووووووووووووووووووووو
مع أرتفاع حدة الصوت، واستمراره بلا توقف؛ بدأت أشعر بتحطم أعصابي .. جلست على أرضية الحجرة، ووضعت كفاي على آذني كي أمنع عنهما هذا الصوت المريع.. لكن الصوت ظل مستمراً ومصراً على تحطيم أعصابي ..
تناهى إلى مسامعي صوت ضجيج قادم من أسفل، ثم أعقبه صوت صرخات عالية لأنثى تصيح:
- توقفوا بالله عليكم .. توقفوا.
وجدت جسدي رغماً عنه يرتجف .. ووجدت نبضات قلبي تتعالى بصوت مسموع .. لقد تملكنى نوعاً من الرعب الشديد لم أقابله قطاً في حياتي .. نهضت بصعوبة وأنا أجرجر قدمي، وضغطت على جميع أزرار إضاءة الحجرة؛ لتسبح بالكامل في ضوء ساطع ..
وقبعت بركن الحجرة وأنا أرتجف هلعاً ..
أرتجف من ذلك العويل ..
عويل الأشباح .
جلس (صلاح) مع رجال البعثة أمام الخيام، وأمامه كان موضوع براداً ممتلئاً بالماء فوق بعض الحطب المشتعل، وكانت المياه داخله تغلي، وتصدر صفيراً متقطعاً، وبخار الماء يندفع إلى عنان السماء كبركان ينفث اللهب، أو كالقطار القديم الذي كان يعمل بالفحم ..
عبث (صلاح) قليلاً بالنيران المشتعلة أسفل براد الماء، بواسطة عصا صغيرة، ثم أشار بذات العصا إلى أحد رجاله كي يصب الماء داخل الأقداح المعدة للشاي ..
كان عقله مشغولاً للغاية بتلك المقبرة، وكل خشيته أن يتم سرقة شيء منها من وراء ظهره.. لقد كان يحب عمله حقاً، لكن حبه الأكبر كان لوطنه الحبيب، وأثاره العريقة.. لن ينسى مهما استطاع حادث سرقة المسلة المصرية قديماً .. تلك المسلة التي يضعها الأمريكان أمام (البيت الأبيض) بطريقة تستفزه كثيراً، ولن ينسى كذلك رأس (نفرتيتي) المسروقة التي تعرض بالخارج ..
أرتشف (صلاح) بضعة رشفات من الشاي، ثم تنهد وهو يشعر بالكثير من الراحة لأنتهاء الجانب الشاق من مهمته..
فجأة هبت تلك الرياح الباردة، ودوى صوت العويل المرعب..
تلفت حوله بفزع يتأمل رفاقه؛ ليجد أثار الرعب تنحت ملامحهم .. هب واقفاً والصوت مازال يدوي بشكل أكثر رعباً وقوة .. كان من المؤكد أن مصدر الصوت تلك المقبرة المكتشفة اليوم..
سد (صلاح) آذنيه بكفيه؛ لمنع ذلك الصوت الرهيب من الوصول إليهما، وألتفت ينظر تجاه المقبرة برعب شديد .. لقد لمح شيئاً مفزعاً يخرج من جوفها..
شيئاً يناهز المترين طولاً، ويرتدي الملابس الفرعونية الشهيرة، وكان وجهه مخيفاً للغاية.. كان الوجه مماثلاً لوجه (بن آوى)، ذلك الوجه المرسوم على النقوش الفرعونية قديماً .. تراجع (صلاح) بفزع شديد، وذلك الشيء يتقدم منه بخطوات بطيئة مخيفة..
الصوت ما زال يسري؛ ليثير حالة من الفزع والهلع بين أفراد البعثة والعمال .. هتف أحد العمال برعب شديد :
- أبعدوا هذه النداهة عني .
كان للرعب حضوراً طاغياً بحق هذه اليلة .. حضوراً مهيباً ومخيفاً .. ولم يكن أمام (صلاح) وبقية الرجال إلا الفرار منه بكل قواهم .
لذلك ركضوا بكل ما يملكون من قوة للفرار من بطشه..
ورعبه.
***
عاوووووووووووووو
مازال الصوت مستمراً بلا انقطاع .. ومازلت قابعاً مكاني أرتجف من الرعب .. حاولت أن أفكر في طريقة للخلاص من هذا الصوت؛ لكن الصوت كان يشتت تفكيري، ويبدد تركيزي بدرجة مستفزة ..
لمحت بغتة تلك الأشياء التي تخرج من جدران الحجرة ..
أشياء مفزعة مسربلة بالسواد، ولا يظهر من وجهها شيئاً، وكأنها تلتحف بالظلام ذاته ..
حلقت تلك الأشياء في فضاء الحجرة، ثم توقف أحدهم، وأقترب مني ببطء شديد ومخيف ..
وعند اقترابه لمحت وجهه .. كان وجه مريعاً ومخيفاً إلى أقصى درجة، وكأنه......
حقاً لا أستطيع وصفه، ولا حتى النظر له لثانية واحدة .. لقد كان شنيعاً حقاً .. شنيعاً لدرجة أن قلبي توقف عن العمل من فرط الهلع، وعند توقفه تماوجت الحجرة أمامي، ثم أظلمت تماماً وأنا أهوي كتمثال من الصخر .
***
استعاد عقلي الوعي بغتة، وأنا اشعر بألم هائل يكاد يحطم ضلوعي..
وجدت عدة أعين تحدق بي إشفاقاً، ولمحت صديقي يربت على كتفي قائلاً بحنان:
- مبارك لنا عودتك يا صديقي .
نهضت ودوار خفيف يعتريني، ثم جلست على طرف الفراش، وأنا أقول بوهن :
- ماذا حدث؟
جلس صديقي بجواري، وأحاط كتفي بيده، وهو يقول :
- لقد أصابتك سكتة قلبية، وظللت فترة أحاول إنعاشك .
صمت برهة ثم أردف:
- لقد أصبتني بالخوف عليك .. حمدا لله على عودتك سالماً .
رفعت كفي إلى رأسي عندما تذكرت كل شيء، وهتفت برعب :
- العويل .. ذلك العويل الرهيب، وتلك الأشباح المفزعة .
ثم تلفت حولي بذعر، وأنا أكمل :
- هل أنتهى كل شيء ؟
أومأ صديقي برأسه، وهو يقول :
- نعم يا صديقي .. لقد توقف هذا الصوت تماماً .
سألته بلهفة:
- وهل عرفت مصدره ؟
أومأ براسه مرة آخرى، وهو يقول :
- نعم .. إنه صادر من عند المقبرة .
سألته مستفسراً :
- وما مصدره ؟ هل هي لعنة ما ؟
هز رأسه نافياً، وقال :
- لا أحد يعلم .. لقد كنا نقبع أمام خيامنا، عندما تعالى ذلك العويل فجأة؛ فشعرنا جميعاً بالرعب، وهرعنا ركضاً لنلوذ بالفندق .. الصوت كان رهيباً حقاً، وبدأت تلك الأشياء المرعبة بالظهور.. أنا رأيت رجل من الفراعنة برأس (بن آوى)، وآخر رأى (النداهة).. وللأسف لم يكن قلبك الوحيد الذي لم يحتمل .
صمت قليلاً، ثم قال بآسى :
- لقد لقي الحارس الموكل بحراسة المقبرة مصرعه، ولم ننجح للأسف في إسعافه .
سألته مرة آخرى:
- كان هناك صوت صراخ أنثوي، هل تعرف مصدره ؟
نهض ببطء، وهو يقول :
- إنها أحد نزيلات الفندق .. لقد أصيبت بانهيار عصبي .
ثم أخرج سيجارة، وأشعلها بأصابع مرتجفة، وهو يقول :
- في الحقيقة لقد كانت الليلة رهيبة للغاية .. من أكثر الليالي المفزعة التي مرت علي .
توجه إلى باب الحجرة، وقال وهو يشير إلى :
- حاول أن تستريح بقدر الإمكان؛ فالغد سيكون شاقاً للغاية، ولابد لنا من محاولة فهم كنه هذا الصوت، وحقيقة تلك الأشياء .
ثم غادر الحجرة يتبعه رجاله.. بينما جلست أفكر بحيرة شديدة ممزوجة بالرعب والقلق :
- ماذا لو حدث هذا مجدداً قبل بزوغ شمس الصباح ؟! ماذا أفعل حينذاك ؟
***
كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحاً، وقد جفاني النوم.. من يستطيع النوم في وسط كل هذه الأحداث المخيفة والمفزعة ؟!
تجولت داخل حجرتي ذهاباً وإياباً، وعقلي يكاد يشتعل من كثرة التفكير .. أخرجت سيجارة وأشعلتها، ثم زفرت دخانها ليخرج كتلة متماسكة سرعان ما بعثرها الهواء، وبددها إلى غياهب المجهول ..
توجهت نحو النافذة أتأمل الكون وأواصل تفكيري .. نسمات الهواء أصبحت هادئة ورقيقة للغاية، تنعش الروح وترطب الذات .. لكن الجمال ليس دائماً للأسف؛ فسرعان ما هبت موجة هواء شديدة لطمت وجهي بقوة ..
وفجأة..
عاووووووووووووو
تعالى ذلك العويل مرة آخرى بشكل مفاجيء.. أرتعشت خوفاً، لكني حاولت التغلب على هذا الخوف بأية طريقة ..
عاوووووووووو
ذلك العويل مرعباً حقاً .. لقد بدأ الرعب يغزو قلبي وجسدي .. تلفت حولي بهلع بحثاً عن تلك الأشباح .. لو رأيتها مرة آخرى سأقضي نحبي للأبد هذه المرة ..
الرباح الشديدة تضرب النافذة، وتحركها بضجيج أزعجني .. الصوت مازال يتردد ويعلو .. سددت آذني بكفي، وجلست على أرضية الحجرة؛ أحاول التفكير في طريقة للخلاص، لكن الصوت كان يشتت تفكيري من شدته واستمراره المفزع ..
انطفأت فجأة أنوار الحجرة لتسبح في ظلام مهيب مرعب، وتملكني الخوف بشكل أكبر بكثير.. وما زاد الأمر سوءاً هو ظهور تلك الأشباح .. كانت تندفع ببطء مهيب ومخيف عبر فتحة النافذة متجهة نحوي .
أغلقت عيناي بقوة كي لا أراها، وتساءلت برعب " هل ستكتفي بالتجول في فضاء الحجرة؟ أم ستنهش جسدي؟! "
ضغطت بكل قواي على آذني حتى أمنع ذلك الصوت من الوصول إليهما .. خفت الصوت بالفعل، وجعلني أستطيع التفكير لبضعة ثوان .. ماذا لو استطعت كتم الصوت بشكل نهائي ؟
هل سيبدد هذا الرعب الذي تملكني ؟ وماذا عن الأشباح الجائلة هذه ؟!
زحفت على بطني وأنا مازلت مغلق العينين .. كنت أريد البحث عما أسد به آذني .. أعتقد قطعة من القطن ستفيد كثيراً .. تنبهت فجأة للسيجارة التي كنت قد أشعلتها .. وجاءتني الفكرة بشكل مفاجيء.. نعم كما توقعتم .. سأستعمل (فلتر) السجائر لسد آذاني .. تحسست جيب قميصي بكفي الأيمن، وتسبب هذا للأسف باختراق الصوت أذني اليمنى بشكل عنيف..
الصوت يحطم أعصابي تحطيماً، ويرج جسدي من الرعب.. أتحسس جيبي بشكل محموم، وأخرج علبة سجائري.. لابد لي من فتح عيني حتى أستطيع تنفيذ فكرتي .. فتحت عيناي ببطء شديد؛ لأفاجيء بهذا الوجه المريع يحدق بي بقسوة شديدة.. تعالت دقات قلبي بسرعة كالمكوك، وشعرت به وكأنه يريد القفز من حلقي .. أغلقت عيناي مرة آخرى، وأخذت أتلو بعض الآيات القرآنية.. بيد مرتجفة حاولت إخراج سيجارة من العلبة، لكن إرتجافتي جعلتها تسقط أرضاً .. تلمست أطراف العلبة بأناملي لأخرج سيجارة آخرى، وقبضت عليها بقسوة..
عاوووووووووووو
الصوت يخترق كياني أكثر لكني مصمم على الصمود .. نزعت (الفلتر) بحنكة، ودسسته بقوة داخل آذني اليمني .. كانت قوة لا داعي لها لأن طبلة آذني كادت أن تنفجر.. تلمست علبة سجائري مرة آخرى لأخرج سيجارة ثانية .. لكن أناملي تحسست الفراغ .. لقد صارت العلبة خاوية .
عاووووووووووو
مازال الصوت يتردد مثيراً الفزع، ومازلت راقداً على أرضية الحجرة مغلق العينين .. تذكرت أن سيجارة قد سقطت مني على أرضية الحجرة .. هذا جيد .. لكني سأضطر إلى فتح عيني كي أجدها .. ولوفعلت ستهاجمني هذه الأشباح حتماً .. لكن مهلاً .. لو كانت تريد إيذائي لفعلت .. ما الفرق عندها بين إغلاقي عيناي أو فتحهما ؟!
فتحت عيناي بشجاعة أحسد عليها، ورأيتهم أمامي يقفون صفاً، وأمامهم يقف – على ما أعتقد- زعيمهم .. طأطأت رأسي، ومسحت بعيني أرض الحجرة بحثاً عن تلك اللعينة، ولحسن حظي وجدتها سريعاً .. ألتقطها بسرعة خاطفة، وكالبرق نزعت (الفلتر)، ثم دسسته داخل آذني اليسرى.. الصوت خفت كثيراً .. كثيراً للغاية لكني ما زلت أسمعه ضعيفاً واهناً ..
ألتفت زعيم الأشباح إلى رفاقه، وأشار إليهم إشارة ما!! حلقوا على أثرها عالياً، ثم أنقضوا على كالصواريخ الموجهة .. ألتصقت بالجدار هلعاً، وأنا أترقب بخوف هجومهم على .. لكنهم تلاشوا فجأة بطريقة عجيبة !!
تحسست جسدي كي أتأكد من سلامته، وأخذت أفكر بعمق شديد .. لقد تنبهت فجأة مع صفاء ذهني بشيء ما! شيء غائب داخل تلافيف عقلي، لكنه يحمل لي حل هذا الرعب والعويل.. حاولت التركيز بقوة، وأنا أتساءل "ما الشيء الذي لفت إنتباهي بهذا الشكل ؟" إنه بالتأكيد شيء حدث في المرتين، لكن ما هو؟
العويل .. ظهور الأشباح.. توقف قلبي عن العمل .. لا شيء من هذا .. ربما .. نعم هذا هو .. إنه الهواء.. يا لك من أحمق حقاً يا أسامة.
بحثت بين أشيائي كالمحموم عن مصباحي اليدوي، ولحسن حظي وجدته .. أضأته سريعاً، وأندفعت مغادراً حجرتي كالعاصفة ..
تناهى إلى مسامعي صوت صراخ أنثوي خافت للغاية – بسبب الفلتر الذي يسد آذني- فعرجت على الغرفة الصادر منها هذا الصوت، واقتحمتها بشكل مفاجيء؛ لأجد تلك الفتاة راقدة على الفراش، وتبعد عن وجهها شيئاً خفياً ما يهاجمها !! والصرخات تنطلق من حلقها بلا انقطاع ..
نبشت أشيائها دون أية مراعاة للزوق أو الأدب، ووجدت - كما توقعت- جهاز من نوعية (MP3) فقمت بتشغيله بسرعة على أعلى درجة صوت، ودسست سماعتيه على آذنيها..
كانت الفتاة تشعر بالرعب الشديد؛ لذلك أخذت تخمشني بأظافرها دفاعاً عن نفسها.. لكني تحملت وظللت ممسكاً سماعتي الجهاز على آذنيها، حتى شعرت أنها بدأت تستوعب الموقف وتهدأ.. ثم برفق أمسكت كفها لأساعدها على النهوض للخروج من الغرفة ..
خرجت إلى الممر وأنا أجذبها خلفي، وهبطت درجات السلم سريعاً متجهاً إلى بهو الفندق، ثم أشرت لها بكفي أن تجلس هنا حتى أعود، لكنها تشبثت بي كهرة تحتمي بامها..
شعرت بالشفقة تجاهها فأمسكت كفها، وأشرت لها أن تتبعني ..
واصلت طريقي تجاه باب الفندق، وبينما أنا ماراً بحجرة الأستقبال، شاهدت العامل منكفئاً على وجهه، ويتلوى كالثعبان .. لم يكن أمامي متسعاً من الوقت كي أساعده؛ لذلك واصلت طريقي ..
خرجت من باب الفندق لأجد صديقي والعمل يركضون بفزع تجاه الفندق ..
أشرت للفتاة أن تظل هنا معهم، ثم واصلت طريقي ركضاً ..
شققت طريقي وسط الظلام، وأنا أقطعه بشعاع مصباحي، وتوقفت عن الركض كي لا أصطدم بصخرة ويدق عنقي ..
كنت متوجهاً ناحية المقبرة، وأنا أرجو أن يكون إستنتاجي صحيحاً.. أقتربت من باب المقبرة؛ لأجد شيئاً عجيباً قلما أن يجود الزمن بمثله !!
لقد رأيت الصوت !!
لا خطأ في العبارة على الإطلاق .. لقد رأيت الصوت فعلياً .. كان يتماوج أمامي كالسراب في الصحراء، أو كالهواء الذي نراه يعلو فوق النيران .. أو بشكل أكثر دقة كان كالماء الصافي الذي يسيل على واجهة لوح زجاجي ..
رأيته مندفعاً من خارج المقبرة، ويتماوج في الفضاء الأثير .. تقدمت بحذر وأنا مبهور الأنفاس، ودلفت داخل المقبرة لأشعر بملمسه، وهو يصطدم بجسدي؛ ليرجه ويرج روحي معه !! لكني تحاملت بشدة وواصلت التقدم؛ فأمامي عمل لابد من إتمامه .
***
رقد صديقي (صلاح) على أرض البهو يرتجف هلعاً .. ومن حوله رقد رجاله بعضهم يصرخ، وبعضهم يتلوى .. بينما كانت الفتاة واقفة كقطة مذعورة، لا تعرف ماذا تفعل ؟
توقف الصوت فجأة ليسود هدوءاً هائلاً مريحاً للغاية.. وتوقفت كذلك الصرخات والإرتجافات دفعة واحدة ..
نهض (صلاح) وهو يزفر براحة شديدة، ثم بدأ يتفقد رجاله؛ ليفاجيء بكل أسى بوفاة اثنين منهما .. فجلس مرة آخرى وهو يشعر بالحزن الشديد ..
دلفت من باب الفندق، وأنا أقول بحماسة :
- لقد أنتهى كل شيء، وإلى الأبد .
نظر لي صديقي مندهشاً، وسألني بفضول :
- هل تعني حقاً ما تقول ؟!
أومأت برأسي، وذهبت إليه قائلاً :
- بالتأكيد يا صديقي .
سألني صديقي مستفسراً :
- وكيف فعلتها بالله عليك ؟
جلست جواره وأنا أتحسس جيبي بحثاً عن سيجارة، لكنني لم أجد بالطبع لأنني قمت بأستعمال أخرها.. فنظرت نحو صديقي، وقمت بالإشارة بما معناه أن يمنحي أحد سجائره.. فمنحني واحدة، وأشعلها لي وهو يقول
- تفضل يا صديقي .. أخبرني الآن كيف فعلتها ؟
أخذت نفساً عميقاً، ثم قلت بلهجة من يحللن الجرائم في الروايات البوليسية :
- لقد تنبهت إلى شيئين .. أولهما : أن الهواء كان شديداً في كلا المرتين اللتين يعلوا فيهما صوت العويل .
قاطعني صديقي قائلاً :
- وماذا في هذا ؟! الهواء يحمل الأصوات بالتأكيد .
أجبته قائلاً :
- أعرف هذا بالتأكيد .. لكن تذكر معي أن الصوت لم يتواجد نهائياً إلا مع إشتداد الهواء،وتوقف تماماً عند هدوءه .. لم يهدأ أو يخفت .. بل توقف بشكل قاطع ونهائي .
ثم واصلت تفسيري، قلت :
- الشي الثاني الذي لفت إنتباهي هو تلك المسلة .. لم أقابل في حياتي مسلة قصيرة الطول بهذه الطريقة من قبل .. ربما هذا الشي لم يكن له أي معنى لو لم يحدث هذا العويل .. لكنني وبالصدفة ربطت بين الحدثين .
رفع صديقي حاجبيه بذهول شديد، وقال :
- هل تعني أن المسلة هي السبب ؟
أومأت برأسي قائلاً :
- نعم يا صديقي .. المسلة هي مصدر ذلك العويل .. عندما شككت بالأمر وذهبت الآن، وجدت عدة تجاويف بنقوش المسلة .. عندما يشتد الهواء ينفذ داخل هذه التجاويف فيحدث هذا الصوت المريع، ويساعد فراغ المقبرة الداخلي بتضخيمه .
رمقتني الفتاة بانبهار شديد، ثم سألتني بفضول وهي تحرك رأسها بطريقة لذيذة :
- وماذا عما شاهدته داخل حجرتي ؟ لقد شاهدت أفعى شرسة هائلة الحجم، كادت أن تبتلعني .
نظرت لها وشيء من الإعجاب بها يملأ كياني :
- أعتقد أن الفراعنة كانوا قد بلغوا قمة العبقرية إلى درجة مذهلة .. كلنا نعلم أثارهم التي كلما رأيناها تزيدنا إنبهاراً بهم، وتجعلنا نتعجب كيف صنعوا كل هذا ؟! الأهرامات، والمعابد، والمسلات .. لذلك لا أستبعد أنهم توصلوا إلى ذبذبة معينة من الصوت تسبب الهلوسة البصرية.. هلوسة تعمل على ظهور ما يرعبنا داخل أعماق العقل الباطن .. تذكرين بالطبع كيف كان الصوت يهز جسدنا رعباً ؟
صفقت وهي تصيح بجزل :
- نعم أنت على حق تماماً .. لقد تلاشى ذلك الثعبان فور أن تلاشى الصوت، عندما وضعت سماعتي جهاز (mp4) على آذني .
ربت صديقي على كتفي، وهو يقول بإعجاب :
- أنت عبقري حقاً يا صديقي .. لقد شاهدت أنا ( أنوبيس )، في حين شاهد عامل آخر ( النداهة) .. وهذا يدل فعلاً أن الصوت يؤثر على مخاوفنا، ويستدعيها لتطفو على سطح واقعنا .
ثم سألني باهتمام :
- ولكن كيف قمت بمنع الصوت ؟
ابتسمت وأنا أقول :
- وهل هذا يحتاج إلى سؤال ؟ لقد قمت بتحطيم المسلة بالطبع .
قفز صديقي كالملسوع، وهو يهتف صائحاً :
- قمت بماذا ؟
انطلقت أضحك بقوة، وأنا أقول :
- لا تفزع كهذا يا صديقي .. أنني أمزح معك .. لقد سددت الفجوات بقطع من الحجارة .
تنفس صديقي الصعداء، وقال بارتياح :
- حسناً فعلت يا صديقي .. حسناً فعلت .
ثم تمطى قليلاً، وهو يقول :
- أعتقد بعد هذه الليلة المرعبة يجب أن نرتاح كثيراً .. لكن للأسف لا وقت للراحة .
قالها وهو ينظر بحزن شديد إلى الرجلين الذين فقدا حياتهما أثر ذلك العويل .
عويل الأشباح .
***
انتهيت من مهمتي الصحفية بعد يومين من تلك الليلة .. وقمت بمصافحة الجميع بحرارة شديدة، ثم ذهبت في طريقي للمغادرة تجاه محطة القطار ..
دلفت إلى داخل المحطة لأجد (راندا) تقف بانتظاري كما أتفقنا سابقا.. كانت في طريقها إلى القاهرة؛ لأن أمها متوعكة قليلاً و.......
تتساءلون عمن تكون (راندا) هذه ؟!
(راندا) هي الفتاة التي كانت بالفندق .. لم تكونوا تعرفون اسمها .. هذا غريب !! وما شأنكم أنتم بهذا ؟!
هذا شأن خاص بي .. لذلك لا داعي لدس أنوفكم في كل شيء..
سأقول لكم الآن فقط انه ركب القطار معها ، و هم يتبادلون نظرات الاعجاب ..
القطار يطلق صافرته أستعداداً للمغادرة ..
أستودعكم الله الآن يا أصدقائي .
وداعاااا
لا تبخلوني بالردود