إنّ سورة الانشراح المباركة ، التي تُخاطب شخص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تتألّف من ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : تذكير وامتنان ، تذكير بألطاف الله وعناياته بالرسول الكريم نفسه .
والقسم الثاني : نوع من التعلّم ، أي العناية وبيان علّة من العلل .
والقسم الثالث : استنتاج النتيجة . في سورة ( الضحى ) ـ التي تأتي قبل سورة الانشراح ـ ثلاث آيات هي في سياق واحد مع الآيات الأربع لسورة الانشراح . تلك الآيات الثلاث هي :
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاَّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) (الضحى :6 ـ 8) : أي تذكر ما تفضّل به الله عليك من قبل . ثمّ تأتي الآيات :
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (الضحى :9 ـ 11) : فكأنّ آية ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) معطوفة على ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ) ؛ لذلك فإنّ بعض المفسّرين ـ من الشيعة والسنّة ـ يدّعون أنّ سورة الانشراح وسورة الضحى سورة واحدة ، لا سورتان منفصلتان . بل لقد ورد في بعض الروايات أنّه في الصلاة الواجبة تجب قراءة سورة كاملة بعد سورة الفاتحة ، فأهل السنّة لا يشترطون هذا الشرط ، ويكتفون بجزء من سورة ، حتّى وإنْ كانت آية واحدة . ومن المألوف أنْ تشاهدوا أئمّة صلاة الجماعة في المسجد الحرام أو في مسجد النبي كثيراً ما يبدأون من منتصف إحدى السور ، ويقرأون سبع آيات أو ثماني أو عشراً ، وينتهون بها . أمّا في فقه الشيعة فتجب قراءة سورة كاملة بعد الفاتحة ؛ لذلك يحتاط الفقهاء في قراءة سورة الانشراح وحدها ، أو سورة الضحى وحدها ، إلاّ أنّ هذا لا يرتبط بالتفسير ارتباطاً كبيراً .
( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) يعني : ألم نفتح لك قلبك حتّى فاضت منه الحكمة والحقيقة والعلوم ؟
يقول بعضهم : إنّ لرسول الله حديثاً قال فيه إنّه طلب من الله شيئاً ثمّ ندم عليه بعد ذلك ، وتمنّى لو لم يطلبه ، وكان الطلب يتعلّق ببعض ما وهب الله لأنبيائه السابقين ، وبتلك التي وهبها له ، فنزلت هذه السورة : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) ، وهذا في الحقيقة بيان لنعمة شرح الصدر وانفتاحه ، فيفوز فيه العلم والحكمة .
( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) (الشرح : 2) : أي أنّنا رفعنا عنك الحِمْل الذي يَثقل عليك ، وهذه نعمة الله الثانية ، فما هو الحمل الثقيل هذا ؟ إذا ما وضعنا سورة الانشراح إلى جانب تلك الآيات التي خاطب بها موسى ربّه ، نجد أنّها تُصدّق بعضها بعضاً . لقد قال موسى عليه السلام : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي و َيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) : أي اجعل مهمّتي سهلة ، فما هي مهمّة موسى ؟
مهمّته الدعوة ، دعوة الناس وهدايتهم ، وهي مهمّة صعبة .
( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) : أي اجعل كلامي يسيراً ، يفهم الناس منه قصدي ، أي أنّهم إذا فهموني وأدركوا ماذا أقول وإلى أين أريد ، أنْ أقودهم ، فهذا يكفي .
لقد استُعملتْ هذه الكلمة مع الملوك استعمالاً كثيراً جعل معناها يقتصر على السائر خلف الملك والممتثّل لأوامره ، إلاّ أنّ معنى الكلمة غـير ذلك ، إنّ معناها ( المعين ) ، أي الذي يعين غيره على رفع حمْل ثقيل ، أنتم أيضاً لو أتيتم في محلّ عملكم بمَن يساعدكم على تخفيف أعباء العمل عن كواهلكم ، يكون هذا وزيراً لكم ، وهذا هو المعنى نفسه الذي وصف به الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً عليه السلام باعتباره وزيراً له ، أي أنّه يساعده في حمل العبء الثقيل ؛ ولذلك قال في حقّه :
(علي وزيري / ووَصيي / وَقاضي دَيني ) .
كلمة ( الوزير ) مأخوذة من ( الوِزْر ) ، والوِزْر هو الحمل الثقيل ، والوزير هو الذي يساعد على رفع الحمل الثقيل .
والوزر ، باعتبارها تعني الحمل الثقيل ، تستعمل للدلالة على الإثم أيضاً ؛ لأنّ الإثم كالحمل الثقيل على الإنسان . ولقد سبق أنْ قلنا مرارا إنّ من صفات الإثم أنّه يُثقل روح الإنسان ، أي أنّه يستفرغ قوّة الإنسان وطاقته ، فإذا مشى فكأنّه يحمل ثقلاً على كاهله ، بخلاف طاعة الله ، فهذه تمنح القوّة .
( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) (البقرة : 45) : إنّ من مميّزات عمل الخير أنّه يمنح القوّة ، فالذي يفعل الخير يحسّ كأنّه قد تغذّى تغذية جيّدة ، أو أنّه قد زرقتْ فيه عقاقير مقوِّية . أمّا في حالة ارتكابه الإثم ، فيحسّ كأنّ حملاً يُثقل كاهله ، ويشعر بالرَهَق حتّى في السير العادي .
فإذا أطلقت كلمة ( وَِزْر ) على الإثم ؛ فذاك لأنّ الإثم حمل ثقيل ، الحمل الثقيل الذي كان بعهدته ، رسالته إلى الناس ، ودعوتهم ، وهدايتهم . إذا أراد أحد أنْ يهدي الناس حقّاً ، فليس أثقل منه من عبء . فإذا قال الله للرسول : ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) بعليّ ، فذلك هو الحقّ الواقع . أي أنّنا خفّفنا عنك هذا العبء بهذا الرجل الذي هو منك بمنزلة هارون من موسى ، فبه رفعنا عنك الحمل . أَوَلَمْ يقل الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( يا علي ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ) . وهذا من الأحاديث المتواترة عن الشيعة والسنّة .
فقد روي أنّ النبي كان يصحب عليّاً في كلّ حرب يخوضها ضدّ المشركين ، ولكنّه عندما عزم على التوجّه إلى حرب تبوك ، لم يأخذ عليّاً معه ؛ وذلك لأنّها لم تكن حرباً فعليّة ، بل كانت حرباً استعراضيّة ، لإظهار قوّة المسلمين وشوكتهم أمام شمال جزيرة العرب في سورية . فذهبوا وعادوا ، وكان النبي قد أبقى عليّاً بمكانه في المدينة ، فأظهر علي أنّه كان يفضّل لو ذهب معه ، فقال الرسول :
( يا علي ، أَلاَ تُحِب أَنْ تكون خليفتي ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ) باختلاف واحد ، هو ( إلاّ أَنّه لا نبيّ بعدي ) . وهذا يعني إنّ هارون كان نبيّاً ؛ إذ إنّه كان بمقدوره أنْ يكون نبيّاً بعد موسى . ولكنّك لا تكون نبيّاً ؛ لأنّه لا نبيّ بعدي ، فكلّ ما بيني وبينك من روابط ، هي ما كانت بين موسى وهارون . فعليّ وزير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم .
عندما أعلن النبي دعوته كان الأمر صعباً ، ثمّ بعد ذلك ، في المدينة ، عندما أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، خفّ الأمر ، وأُزيح الثقل عن كاهل الرسول . كانت مهمّته قد انتهت .
( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) : أي ذلك الحمل الذي أخرج الأصوات من عظام ظهرك بمثلها يضع امرؤ ثقلاً على سقف خشبي ، فيصدر الصوت من الخشب حتّى يكاد ينكسر . يريد الله أنْ يقول إنّ الحمل كان من الثقل بحيث إنّ عظام ظهرك أخذت تُفرقع ، فأَزَحْنَا عنك هذا الثقل ، وكنتُ موفّقاً .
( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) : لقد أنزلنا حملك ، ولكنّنا رفعنا اسمك ، وجعلنا صوتك يعلو ، وقَرَنّا اسمَك باسم الله ، فعندما ينادي المنادي : أشهد ألاّ إله إلاّ الله ، يتلـوه مباشرة : أشهد أنّ محمّداً رسول الله .
إلى هنا تتناول الآيات النعم الإلهيّة ، ثمّ يبيّنها بصورة فلسفيّة . إلى هذا الحدّ كانت الآيات شخصيّة : كنتَ كذا ، وفعلنا كذا . ثمّ يضع الموضوع في صيغة فلسفيّة ؛ ليصل منها إلى النتيجة .
( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) : المعنى الكلّي هو أنّ الصعوبة تأتي ومعها السهولة ، والسهولة في الصعوبة . وتُشير الآيتان إلى مهمّة النبي : كم كانت صعبة في البداية ، وكم كان حملك ثقيلاً حتّى فرقعتْ عظام ظهرك ، وكان العدوّ يسعى لأنْ يمحو اسمك محواً ، فصار العكس . هذا هو قانون الله .
ولكن ماذا يُعبّر القرآن عن ذلك بقوله : إنّ الصعوبة مع السهولة ؟
المقصود هو القول أنْ ليس هناك تعاقب ، أي ليس هناك أمر صعب ، ثمّ يعقبه أمر سهل بالتناوب ، ليس الأمر كذلك ، بل إنّ السهولة وليدة الصعوبة ، والصعوبة أُمّ السهولة ، أي أنّكم إذا أردتم بلوغ اليُسر ، والرفاه ، والسعادة ، فلا يُتاح لكم ذلك ما لم تَعبروا طريق الشدائد . إنّه لتعبير عجيب ، وهي قاعدة كلّيّة عجيبة . فعلى الرغم من أنّ البداية تخصّ شخص الرسول ، والنعم التي أنعم الله بها عليه ، شرح صدره ، ورفع عنه الثقل ، ورفع اسمه ، ولكن على أيّ قانون ؟ أعمال الله كلّها تجري على وِفق القوانين والسنن ، فما هذه القوانين والسنن ؟ هي : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ، هذا هو القانون . ونقرأ في سورة السجدة : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (السجدة : 24) : أي أنّنا عيّنّا منهم قادةً يرشدون الناس بأمرنا . لماذا ؟ لأنّهم صبروا في الشدائد ، وآمنوا بآياتنا ( الإيمان مع العمل في الشدائد ) . وقد ورد هذا أيضاً في آيات أخرى مثل سورة آل عمران : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران : 146 ـ 148) : أي كم في طول التاريخ من أناس إلهيّين يعبدون الله ، وكم من أنبياء قاتل أولئك معهم فـي سبـيل الله ( ... فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... ) ، أي كم تحمّلوا من الشدائد ، ولكنّهم لم يستولِ عليهم الوهن ( ... وَمَا ضَعُفُوا ... ) وظلّت معنويّاتهم عالية ، ( ... وَمَا اسْتَكَانُوا ... ) لم يُظهروا الجزع والخضوع والذل ، ولم تتحطّم نفوسهم ، ولم يتزلزل إيمانهم ، بل لجأوا إلى الله ، واستعانوا به ، ولم يقولوا شيئاً سوى الطلب من الله أنْ يملأهم صبراً واستقامة في سبيله ، وأنْ ينصرهم على الكفّار ؛ ولذلك ، ولِمَا تحمّلوا من المِحَن ( فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران : 148) . ويضيف الإمام عليّ قائلاً : لقد ظهرت نيّتنا الصادقة في أعمالنا ، لا في الإدلاء بالشهادَتَين . وعندئذٍ أيّدنا الله بنصرٍ من عنده . وهذا هو معنى الآية : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ، فيا أيّها الرسول لقد عانَيْتَ كثيراً ، وها هي ثمرات العناء . ثمّ نأتي إلى أمر عجيب آخر : ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) : هل يعني هذا أنّك بعد أنْ فرغتَ من ذلك ورَفَعَ الثقل عن كاهلك ، اذهب ونَمْ مستريحاً ؟ لئن فعلتَ ذلك ، فأنت قد جلبتَ على نفسك سوء الحظ ؛ إذْ إنّ سوء الحظ يأتي من التعوّد على النوم ( الاستراحة والرفاهية ) ، وما من أمر أشدّ عداءً للإنسان من الرفاهية . ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) إذا فرغت من كلّ ذلك ، فالْقِ بنفسك في التعب والنَصَب ، ابحث عن الشدائد ، ولا تُعوِّد نفسك على الراحة . لِنفرض أنّ رجل الله [ الإنسان المؤمن ] لم يجد أمامه من المشاكل الاجتماعيّة ما يشتغل بها ، فهل زالت عنه شدائد العبادة ؟ عندما لم يكن للنبي ما يشغله من المشاكل الاجتماعيّة ، فهل زالت ؟ ويقضي الليل في النوم حتّى الصباح ؟ كلا ، ما كان ليستريح ، ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) : القِ بنفسك في المتاعب الحقّة ، ولا تركن إلى الراحة فهي عدوّ الإنسان : ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) .