مما يندر الخلاف حول أصله أننا نعاني من قصور في ميدان الأخلاق والسلوك في بيئتنا الدعوية؛ والخلاف إنما يتركز في حجم الظاهرة وتفاصيلها وأسبابها.
ويمكن تفسير هذا الخلل من خلال عوامل عدة، لعل من أهمها ما يلي:
- التقسيم والتبويب الاصطلاحي لمجالات العلوم الشرعية إلى: عقائد، وعبادات، وأخلاق، وسلوك؛ أدى إلى أن يأخذ باب الأخلاق والسلوك - جملةً - حيزاً أقل أهمية.
- منهجية التعلم والتفقه، والتي انطلقت من التقسيم التخصصي للعلوم، والاعتناء أكثر بقضايا الخلاف والجدل، مما جعل باب الأخلاق والسلوك عند فئة كبيرة خارج مجال العلم الشرعي؛ فهو من شأن الوعاظ والمذكِّرين ونحوهم، أو مما يقرأ فيه طالب العلم حال فراغه واستجمامه.
- طبيعة الأخلاق والسلوك وأن الأبرز فيها الجانب العملي التطبيقي أكثر من المعرفي، وسبيل بنائها هو القدوة والنموذج وهذا أكثر من المعرفة، ومن ثم حين ينشأ لدى القدوات قصور في السلوك والأخلاق فإن أثره يمتد إلى الأتباع.
- تأثُّر الأخلاق والسلوك بالبيئات والمجتمعات؛ فمن ينشأ في بيئة جافية يكتسب قدراً من الجفاء والغلظة.
- ما استقر لدى كثيرين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بدأ دعوته في أمور العقيدة، وأنه في الفترة المكية كان لا يعتني إلا بالتوحيد، وأن أمور التشريع والآداب ونحوها إنما جاءت متأخرة.
إن الاصطلاح، ومنهجية التفقه والتعلم، وتقسيم العلوم؛ أمور بشرية لا اعتراض عليها إذا لا مشاحة في الاصطلاح، لكن حين نختار اصطلاحاً أو منهجيةً مَّا فلا بد من الوعي بالآثار الموضوعية لذلك ومعالجتها.
وأما القول بأن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت قاصرة في مبدئها على أمور التوحيد والعقيدة؛ فهو أمر يحتاج إلى مراجعة.
لقد قال - صلى الله عليه وسلم - حين سأله عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - وهو لَـمَّا يَزَل في مكة: بِمَ أرسلك الله؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكَسْرِ الأوثان، وأن يُوحَّد اللهُ ولا يُشرَك به شيء» [أخرجه مسلم].
وحين كان المشركون يُسألون عن دعوته كانوا يجيبون: يأمرنا بالصدقة والصلة. وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وهو في مبدأ الدعوة: «رأيته يأمر بمكارم الأخلاق» [أخرجه البخاري].
بل إنه - صلى الله عليه وسلم - جعل البناء الخُلُقي من مقاصد بعثته: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق» [أخرجه أحمد].
وربط - صلى الله عليه وسلم - الأخلاق بالإيمان في أكثر من حديث، وجعل أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً.
ومن تأمل القرآن المكي وجد العناية بجانب الأخلاق والسلوك، كما في سورة المطففين، وكما في سورتي الإسراء ويوسف وغيرهما.
إن أول خطوة في البناء الخُلُقي هي إعادة النظر في منزلة الأخلاق والسلوك من الدين، وتصحيح المفاهيم الملتبسة التي توحي بأن الأهم هو مسائل الاعتقاد الخبرية ثم لا يضر الإنسان بعد ذلك أن يكون طعّاناً لعَّاناً، لا يَسْلَمُ المسلمون من لسانه ويــده، ولا يأمن إخوانه بوائقَه!
إن الدين كُلٌّ متكامل، وهو إنما يؤخذ من نصوص القرآن والسنة؛ فخروج باب الأخلاق والسلوك عن مسمى العلم عند بعضنا، أو أهمية جانب من الجوانب؛ لا يسوِّغ أن يقودنا إلى تجاهل النصوص الشرعية التي تؤكد على هذا الجانب وتربطه بالإيمان، وتتوعد من أخلَّ به.
إن الاكتفاء بالتأكيد على الأخلاق وأهميتها بين مناسبة وأخرى، أو تناولها في خطبة جمعة، أو علاج موقفٍ مَّا؛ لن يكون كافياً ما لم تأخذ حقها وحيِّزها من الاهتمام، ووضعها في الموضوع الشرعي دون غلو أو جفاء.
المصدر: موقع إسلام ويب