بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأله عز وجل أن يلهمنا الرشد، وأن يقينا فتنة النفس والهوى، وبعد:
فسأبدأ حديثي بعرض موجز للواقع التاريخي، ثم أنتقل منه إلى بيان المشكلة القائمة، ثم أضع بين أيديكم الحلّ المقترح.
وهكذا فإن حديثي لن يكون وصفاً مجرداً لواقع، بل سأحاول أن أجعل من الوصف مقدمة للعلاج.
أما الواقع التاريخي فيقول: لم يستخدم الدين مرة لمأرب سياسي، إلاّ عاد ذلك بالوبال على الدين وأصحابه، وعلى العلاقة السارية بينهم وبين مواطنيهم أو مجاوريهم من ذوي الأديان الأخرى.
ولو أردنا أن نصغي إلى حديث التاريخ، وهو يترجم هذا الواقع ويستنطق بذلك أحداثه، لاستنفد منا وقتاً طويلاً، ولما تأتي تسجيله إلا في مجلدات.
ولقد نظرت وتدبرّت.. فلم أجد مايدلّ على أن هذا الواقع ينطبق على الإسلام دون المسيحية أو على المسيحية دون الإسلام، أو يتحيز في هذا لدين دون دين.
بل الذي دلت عليه شهادة التاريخ، أنه لم يوضع أي من الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، في عهد من العهود في ميزان الرؤية السياسية، إلا وتحوّل في أيدي أصحاب هذه الرؤى إلى ورقة هامة نادرة، يحقق اللعبُ الماهر بها نتائج سياسية لأصحاب النفوذ والمصالح، قلما تقوى أي وسيلة أخرى على تحقيقها.
وبتعبير أوجز وأوضح أقول: لم يظهر الدين أياً كان في مرآة السياسة وأربابها، إلا خادماً لأقوى من يستطيع أن يستخدمه في مناوراته السياسية.وربما تمزق بين أكثر من مخدوم واحد عندما تتقارع المذاهب السياسية المتعارضة على مستوى متساوٍ من الندّية المتنافسة.
أعني بهذا أن المسيحية، على سبيل المثال، لم تَـفُـزْ كحليف مُنفَضَّل، لذاتها، في نظر الساسة الغربيين قديماً أوحديثاً، وإنما اختيرت دائماً في هذه المنطقة، بوابة يجتازون منها، أو سلاحاً يقارعون به، غير مبالين بمصير هذه البوابة أو بما يصيب هذا السلاح بعد ذلك!.
ومايقول التاريخ في هذا عن المسيحية، هو ذاته الذي يقوله عن الإسلام.
ولأضرب الآن بعض الأمثلة الحية، لتجسيد هذه الحقيقة، ولمزيد من التبصير بها إليكم أولاً من الأمثلة التاريخية هذه الصورة القاتمة:
يبدو أن أقدم اضطهاد، بل مأساة، منيت بها المسيحية على يد السياسة والسياسيين، ذاك الذي جرى على يد الدولة البيزنطية قبل الإسلام، والذي استمر مدة قرنين من الزمن.
من المعلوم أن الدولة البيزنطية تبنت المسيحية ديناً رسمياً لها، في القرن الرابع بعهد الإمبراطور تيودوسيوس. وقد أشاع ذلك لدى المسيحيين أن هذا الحدث الهام سينهي ذلك التاريخ الطويل من الاضطهاد الذي مني به المسيحيون على أيدي الرومان.
ولكن سرعان ماتبيّن أن اعتناق الرومان للدين الجديد، إنما كان بدوافع سياسية تهدف إلى بسط الدولة نفوذها على هذه المناطق بأسرها، وأن تتمتّع فيها بقدم راسخة وسلطان متين.
وهذا هو الذي دعاها إلى أن تعتمد طبعة خاصة بها عن هذا الدين، على حدّ تعبير فيكتور سحاب، وإلى أن تفرض من هذه الطبعة الخاصة مذهباً لها تفرضه على شعوب المنطقة كلها، مصرّة على إخفاء كل المذاهب المسيحية التي تخالف مذهبها الرسمي هذا.
وهكذا، سعت بيزنطة سعيها اللاهث إلى إنهاء وجود سائر العقائد المسيحية المغايرة لعقيدتها الرسمية التي اختارتها، مرة عن طريق المجامع التي كان الإمبراطور يدعو إليها ويحرص على وجوده الشخصي فيها، ومرة بالتصفية الجسدية وملاحقة الرهبان حتى تخوم الصحراء السورية والمصرية!.. وفي مجزرة بيزنطية واحدة قتلت الدولة في مصر مالايقل عن مئتي ألف قبطي من أنصار المسيحية اليعاقبة (من يُسمون اليوم بالسريان الأرثوذوكس)!.. ولم يتوقف اضطهاد بيزنطة للمسيحيين العرب، وكان جلهم من اليعاقبة، إلا عندما امتدّ الفتح الإسلامي إلى بلاد مصر والشام.
وفي ظل هذا الفتح، وبسعي من الدولة الإسلامية، تم عقد الصلح بين القلة من الخلقيدونيين الموالين للرومان والكثرة الكبرى من اليعاقبة الذين لقوا النكال على أيدي الرومان. وقد سجل التاريخ كيفية انعقاد هذا الصلح بمساعي الدولة الإسلامية وباهتمام شخصي من معاوية بن أبي سفيان.
* * *
أما الآن، فإليكم هذه الصورة المناقضة:
جاء الإسلام، بل جاءت الدولة الإسلامية، فكانت أكثر اتساعاً للمسيحيين العرب من الدولة المسيحية البيزنطية. والسبب في ذلك أن الدولة الإسلامية دأبت على السير تحت قيادة الدين، ومن ثم فقد كان عليها أن تستخدم السياسة لسلطان الدين، على النقيض من عدم اكتراث الدولة البيزنطية بالدين، ومن ثم سعيها إلى استخدامها الدين للسياسة!..
ونظراً إلى أن من أبرز مبادئ الدين الإسلامي أن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانه أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وموروثاتها، وأن على الدولة الإسلامية أن تكون عوناً لتلك الشعوب في حماية ذلك كله، فقد كان لابدّ لسياسة الحكم الإسلامي أن تكون متماشية ومنسجمة مع هذا المبدأ.
وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة مقررة في القرآن وفي السنة النبوية المطهرة، ومجسّدة تطبيقاً في حياة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، فإنه ليطيب لي أن أستشهد في ذلك بما يقوله الدكتور أدمون رباط. وهذا هو كلامه باللفظ والحرف:
(للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة هي دينية في مبدئها ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة من عسكرية ومُثُلِيّة وتبشيرية، إلى الإقرار بأن من حق الشعوب الخاضعة لنظامها أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وتراث حياتها. وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم).
ولقد جاءت أحداث الفتح الإسلامي، ثم جاء واقع النظام الإسلامي الذي انبسط سلطانه على هذه البلاد، بعد انحسار المدّ البيزنطي عنها، تصديقاً وتجسيداً لهذا النهج الذي ذكره أدمون رباط.
فلقد شهد التاريخ أن السياسة البيزنطية في البلاد العربية عامة وفي القدس خاصة، كانت ترمي إلى إشعال نيران البغضاء والوقيعة بين الديانتين الكتابـيتين: المسيحية واليهودية، من ذلك الأتربة والأوساخ التي كانت تتراكم على الصخرة المشرفة بأمر من الرومان وكيداً لليهود الذين كانوا يُدفعون بدورهم وبوحي من السياسة الرومانية ذاتها إلى تقذير المكان الذي يعتقد المسيحيون أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام صلب فيه، وهو المكان الذي أقيمت فوقه كنيسة القيامة.
فلما استجاب عمر بن الخطاب لرغبة أهل إيلياء، ودخل القدس، وكتب كتاب الصلح المعروف، أقبل إلى الأتربة والأوساخ المتراكمة فوق الصخرة، يزيحها بردائه، فأقبل من حوله من المسلمين وغيرهم يسابقونه إلى ذلك... ثم اتجه إلى حيث القمامة المتراكمة بفعل اليهود وبوحي من الرومان فوق مكان كنيسة القيامة، فباشر إزاحة القمامة عنها بنفسه، وماهو إلا أن أقبل كل من كانوا حوله يسابقونه إلى العمل ذاته.
وهكذا فقد كان عمل عمر بوحي من شرعة الإسلام وحكمه، مدّ جسور التآلف والقربى بين الديانتين، على حين كانت سياسة بيزنطة ترمي إلى تعمق مشاعر الكراهية وأسباب الوقيعة بينهما!...
ثم إن التاريخ شهد بأن الكثرة الغالبة من سكان سورية الطبيعية (سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين) ظلت تنتمي إلى الدين المسيحي طوال خمسة قرون من حكم الدولة الإسلامية. ولم يكن ذلك الوضع يشكل نشاذاً أو نشوزاً لما يقتضيه النظام الإسلامي السليم. بل كان الإقرار به والعمل على رعاتيه جزءاً لايتجزأ من الشرعة الإسلامية المنبثقة من مصدريه الأساسيين: القرآن والسنة. فلاجرم أن ذلك الانسجام الحقيقي الساري بين الجماعتين الإسلامية والمسيحية، إنما كان بأمر من النظام الإسلامي الرباني الجامع. ولم تكن السبل السياسية إلا خادماً يطوف حول هذا المبدأ الرباني بالحماية والرعاية.
لاأدلّ على ذلك من أن قادة الغزو المسيحي الأوربي المتمثل في الحروب الصليبية حاولوا أن يوقعوا المسيحيين العرب المنسجمين مع الدولة الإسلامية، في حرج شديد، فأرسلوا يسألونهم عن قرارهم الذي يجب أن يتخذوه: أهو الوقوف مع بني دينهم الغزاة الوافدين، أم الوقوف مع بني قومهم المسلمين.فكان قرار أكثريتهم الساحقة، الوقوف في خندق واحد مع بني قومهم المسلمين.
وغني عن الشرح والبيان أن السبب الذي دعاهم إلى اتخاذ القرار الثاني، ذلك الانسجام المتناغم مع شرعة الإسلام ونظامه المطبقين طوال خمسة قرون من عمر الفتح الإسلامي.
وعلى الرغم من أن قلة من المسيحيين انحازوا إلى صفوف الصليبيين، فقد كان الغزو وبالاً على المسيحيين جميعاً!... ويرى أكثر المؤرخين أنه هو العامل الذي أدى إلى تناقص المسيحيين بعد الغزو الصليبي واعتناقهم الإسلام.
* * *
دعونا الآن نتأمل في المشكلة الدولية القائمة:
مما لاريب فيه أن السياسة الغربية التي تقودها اليوم أمريكا بالتعاون مع حليفتها الصهيونية العالمية، هي الوريث الحقيقي للنهج الذي كانت تسير عليه الدولة البيزنطية في هذه المنطقة.
إنها أي الوريث المتمثل في السياسة الغربية اليوم، تعلن في كل مناسبة انتماءها إلى المسيحية، ولكن كما كانت بيزنطة تعلن عن انتمائها إليها. إذ كانت ترى فيها مطية ذلولاً إلى تحقيق مصالحها في العالم كله، لاسيما العالم العربي والإسلامي.
أي فالدين، من حيث إنه حقيقة ذاتية تتمثل في دينونة الإنسان بالعبودية السلوكية لله عز وجل، لاقيمة ولاوزن له في رؤية هذا الوريث اليوم. ولكنّه من حيث إنه أداة يمكن لذوي البراعة السياسية استخدامها لتنفيذ مآربهم وأغراضهم، له في رؤية هذا الوريث الوزن العظيم والقيمة الخطيرة.
والسياسة الغربية الأمريكية التي أعلنت بالأمس شعار ((النظام العالمي الجديد)) ثم طورته اليوم إلى شعار ((العولمة))، كانت ولاتزال ترمي إلى تجزئة هذه المنطقة، ثم إلى تفتيت أجزائها، ثم إلى بث أسباب الصراع بين فتاتها، قرأنا ذلك بين الأسطر في كثير من التصريحات والخطابات، ثم قرأناه صراحة في التقرير الصادر من مجلس الأمن القومي الأمريكي عام (1991م) .
وإنا لنرى وسائل تنفيذ ذلك، والخطوات التي تتخذ لذلك بأم أعيننا.
وإنها لوسائل كثيرة، ولكن من أخطرها مايتم من استكثار فئات الإسلاميين واستيلاد بعضهم من بعض، وبث عوامل الشقاق والوقيعة فيما بينهم باسم الإسلام ذاته. والعمل في الوقت ذاته على تبديد (الإسلام الحضاري) الذي كان ولايزال يشكل الجامع المشترك بين المسيحية والإسلام على امتداد هذه الأرض المباركة، ثم تذويب عوامل الثقة التي كانت ولاتزال تؤدي إلى صدق التعاون بين المسلمين والمسيحيين، وتحويل الجامع الإيماني المشترك بينهم إلى حساسيات طائفية، تبعث على استيحاش كل فريق من الآخر، لتغريه باللجوء، أو بالركون، على أقل تقدير، إلى العدو الطامع في مصالح كلا الفريقين.
إنني من أكثر الناس تتبعاً لهذا الذي يجري، من التلاعب بمعاني القرآن وأحكامه، وطمس الوقائع التاريخية المتمثلة في أسمى مظاهر التعايش المسيحي الإسلامي في كنف الحكم الإسلامي، هذا الذي يجري على أيدي أو بألْسُن فئات من ذوي العواطف الفجة التي تعوزها كوابح البصيرة والعلم، مع سعيها إلى تقطيع صلة القربى بين المسلمين والمسيحيين فوق أوطاننا المشتركة.
ولعلّي من أكثر المراقبين إطلاعاً على الأصابع الأجنبية الخفية التي تحركهم طبق خطة رسمت في جنح الظلام في الغرب، ثم أرسلت لتطبق علانية على أيدي هؤلاء الزعانف في الشرق.
وما انفجار حافلة السائحين الأجانب بمن فيها قبل سنوات في مصر، والفتنة التي اختلقت أسباب لها بين المسلمين والمسيحيين هناك قبل أسابيع، إلا تنفيذ وانقياد من جنود مجهولين هنا، لتعليمات كانت ولاتزال تُصدرها قادة معروفون هناك... والقصد البعيد الذي يسخّر له هؤلاء الناس، هو أن يتحول الشعور الديني والإيماني الجامع بين المسلمين والمسيحيين فوق هذه الأرض العربية الإسلامية إلى عداوة تستشري بين جوانح كل من الفئتين ضد الأخرى لتقطع سبيل التلاقي والتعاون بينهما، وليعود الوبال بعد ذلك إلى كلا الفئتين، حيث يفوز عندئذ تجار العولمة وروّادها، أولئك الذين يتخذون من سلطان الدين أينما كان خادماً لسلطتهم السياسية التي تدور على محور أغراضهم ومصالحهم في العالم.
وفي الناس اليوم من تذهب بهم السطحية إلى تصور أن الغرب إذ يسعى إلى الوقوف في وجه الإسلام والقضاء عليه، إنما يهدف بذلك إلى أن تتحقق للمسلمين والمسيحيين العرب، بعيداً عن الدين، وحدة قومية جامعة!!
إن الغرب يعلم جيداً أن الوحدة التي يمكن لها أن تجمع شمل المسلمين والمسيحيين في بلادنا العربية هذه، هي تلك التي تنبعث من أسسٍ حضارية إسلامية عربية عميقة الجذور، تطب الوجود العربي بطابع متميز عن شعوب العالم كله، بقطع النظر عن الإسلام الاعتقادي الذي يأخذ جانباً ينفرد به المسلمون من هذه المساحة الحضارية الواسعة.
ونظراً إلى أن الغرب لايرضيه ولايناسب مصالحه اجتماع شمل المسلمين والمسيحيين في بلادنا هذه، فإنه يظل ماضياً في تذويب هذه الأسس الحضارية الإسلامية الجامعة. أي فهو لايكتفي بالسعي إلى القضاء على الإسلام الديني الاعتقادي، بل يتجه بالحماسة ذاتها إلى القضاء على الإسلام الحضاري!..
ألاترون إليه كيف يحارب اللغة العربية الفصحى بسلاح اللهجات العامية المتعددة؟.. ألاترون كيف يحارب الكوابح الأخلاقية التي تميز مجتمعاتنا، وتحول دون انهيار قوالب الأسرة في حياتنا؟.. ألاترون إليه كيف يحارب الوجدان الديني الجامع لفئاتنا ويحاول اقتلاع جذور التربية التي كانت ولاتزال تَشْرب وترتوي من عمق وجودنا الحضاري المتميز؟
إن الغرب يلحّ على محاربة هذا النسيج الحضاري في مجتمعاتنا، لأنه النسيج الجامع والمؤلف بين شطري المواطنين: المسلمين والمسيحيين على أرضنا العربية الإسلامية هذه.
أجل... إن الغرب ليعلم الدور الذي يلعبه هذا النسيج الحضاري في أوطاننا العربية الإسلامية أجمع، إنه يعلم كما نعلم أن هذه القيم الحضارية الإسلامية الجامعة هي مهوى أفئدة المسلمين والمسيحيين العرب على السواء.
وإن كنتم في شك مما أقول فإليكم مايقوله المسيحي اللبناني فيكتور سحاب في كتابه: (من يحمي المسيحيين العرب):
(أفلايطرب العرب المسيحي لبلاغة اللغة العربية، وقوة الشعر العربي المسبوك بلغة القرآن.أفلا تهزه الموسيقى العربية الغنائية المنحدرة من التجويد القرآني؟ أفلاتستهويه خطوط العمارة الإسلامية؟.. أفلا تعتمل في صدره عواطف من نمط عربي لاشبيه لمثلها في الغرب؟.. أفلاتتحكم بعقله مفاهيم اجتماعية وعائلية مماثلة لما يتحكم بعقل المسلم العربي؟..
إذن فما الذي يفرّقه عن المسلم سوى تلك المساحة الضئيلة التي يحتلها الدين من حياتنا؟ وأقصد بالدين العقيدة الأخروية والصلاة والصيام والفروض، ولاأقصد الاقتتال الطائفي الذي هو اقتتال سياسي في حقيقته).
وهكذا فلابدّ أن أكرر قائلاً: عندما ينجح الغرب في تفكيك هذا النسيج الحضاري الجامع في مجتمعاتنا العربية، فلسوف ينحطّ الوبال من جرّاء ذلك على كل من المسلمين والمسيحيين على السواء.
وبعد... فما العلاج؟
أولاً: ينبغي أن نعلم أنه علاج واحد لكل من المسلمين والمسيحيين أينما كانوا.. إذ إن الخطر الذي يحدق بالجماعتين خطر واحد.
ثانياً: يجب أن نستبعد عند التفكير بنوع العلاج أطروحة ((العلمانية)) التي تراود أذهان بعض الناس، ذلك لأن هذه الأطروحة جزء من الخطة الكيدية المرسومة إذ هي تمثل من وجهة نظر الغربيين إحدى الضمانات لتفكيك مجتمعنا العربي الإسلامي، وتبديد نسيجه الحضاري الجامع والمؤلف كما قلنا بين شطريه الإسلامي والمسيحي، وكم قرأنا في ذلك تقارير خفية وكتابات معلنة!...
ثالثاً: إن العلاج ـ في كلمة موجزة جامعة ـ هو أن نسمو بمعتقداتنا الدينية إسلامية كانت أو مسيحية إلى صعيد التحرر من التيارات السياسية الوافدة، بل إلى مستوى القيادة الحقيقية التي تستخدم الرؤى السياسية لمصلحتها وحسابها، وذلك بدلاً من أن نمكن الآخرين من الهبوط بها (أي بعقائدنا الدينية) إلى خدمة التيارات السياسية واللحاق بها..
إنه لخطأ قتّاك أن تنقاد جماعة أو مؤسسة إسلامية كبرت أو صغرت، وراء تيار سياسي وافد أياً كان مصدره ونوعه، وأن تجعل من معتقدها الديني خادماً يدور على محور ذلك التيار!... إن ذلك يعني أن الدين قد غدا في مجتمعاتنا هذه منبراً يتربع عليه سلطان السياسة الغربية الماضية في العمل على المزيد من تفتيتنا. ثم في العمل على تحويل أوطاننا هذه إلى حقول تزدهر بمصالحها، ومقبرة تدفن فيها حقوقنا بعد أن دفن فيها وجودنا الحضاري.
ولكن ما الضمانة التي تمكننا جميعاً من التسامي فوق هذا الخطأ القتال؟
الضمانة أن يكون كل منا صادقاً في يقينه الإيماني والاعتقادي، فمهما توافر هذا الصدق في المعتقد الديني، وُقي صاحبه التورط في هذا الخطأ.ومهما غابت مشاعر الصدق تجاهه، وحلّت في مكانها المشاعر والدوافع التقليدية، غابت معها الوقاية اللازمة، وحّل في مكانها الفراغ الأيديولوجي الذي لابدّ أن يستقبل مغريات الأنشطة السياسية التي تُزهق القيم وتذيب قوالب تماسك الأمة، ثم تَنْثُر وتفكك كيانها المتآلف لتتحول إلى فئات متنافرة شتى تتيه في بيداء الضياع.
فإن عز علينا استعمال هذا العلاج، فلن يعزّ علينا صدق الالتجاء إلى الله. ولانشك أبداً في أن العبد المملوك إذا صدق ربّه المالك في الطلب والإلحاح، صدق الله معه في الاستجابة والعطاء.
وإني لأقول بحق: مهما اختلفت عقائدنا الدينية، ومهما تغايرت شروحنا لها، فإن لغة أكفنا إذ تنبسط بالافتقار إلى كرم الله لغة واحدة.. وإن نداءنا المنبعث من حلوقنا جميعاً بأنشودة ((يارب)) عندما يطوف بنا الكرب، إنما يطرق من السماء باباً واحداً.
فلنجعل من أكف افتقارنا إذ تنبسط إلى الله بذلّ، وأنشودة دعائنا إذ تنبعث من قلوبنا بصدق أول علاج لمشكلاتنا كلها.
وصدق الله القائل: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 2/186]. الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
انا (س)