على الله، تعكس ما كان يعانيه أصحابها من ضعف ناتج عن فقدانهم سلطاتهم جميعاً. لقد استطاع البويهيون عملياً الفصل بين شخص الخليفة ولقب الخلافة، ومع ذلك ما كانوا يجرؤون على إلغاء نظام الخلافة، فقد كان أي تغيير جذري في ذلك النظام يمكن أن يثير اضطرابات ومعارضات خطيرة قد تهدد سلطانهم، وعلى العكس من ذلك، فقد كانوا يستغلون ما لهذا النظام من هيبة في نفوس المسلمين ستاراً يقومون وراءه بممارساتهم التعسفية. أما الخليفة فلم يكن يمثل بالنسبة إليهم إلا شخصاً عادياً يستطيعون بحسب مصالحهم إجباره على التنازل عن لقبه. أما الاحترام الذي كانوا يظهرونه له فلم يكن يتعدى المظاهر الشكلية: فقد كان الخليفة يحتفظ بسلطات دينية رمزية، كما أن مراسم تعيين السلاطين كانت تجري في القصر تحت رعاية الخليفة. إلا أن هذا كله لم يكن في الحقيقة إلا مظاهر خادعة كانت تقتضيها الظروف الاجتماعية - الدينية الصعبة التي كان يعيشها المجتمع. أما في الواقع، فإن عدم احترام الخليفة كان يُعبَّر عنه في مظاهر عديدة، فقد كان يُختار له الألقاب التي عليه أن يتسمى بها، كما تُفرَض عليه الإقامة في قصره بين الحريم، أو تُقلَّص مصروفاته اليومية، وتُصادَر ضياعه، أو يُقتَل أو تُسمَل عيناه.
لقد أدى ضعف الخلافة إلى خروج السلطة الدينية عملياً من أيدي الخلفاء العباسيين على الرغم من تمثيلهم لها رمزياً. وقد انتقلت هذه السلطة بالتدريج، منذ عصر الأمويين، إلى فئة الفقهاء وعلماء الدين الذين كان لهم مطلق الحرية في الاجتهاد والتفكير. وكانت السلطة الحقيقية لهؤلاء تأتي من أنهم كانوا يشكلون مرجعاً، تجد لديه العامة حلولاً لمشكلاتهم اليومية في ضوء الشريعة الإسلامية. وكان مما يزيد في تلك السلطة أنهم كانوا مطلقي الحرية في تعدد الآراء المتمثل في الاجتهاد، ولم يكن هناك قانون واحد أو مذهب فقهي معتمد بشكل رسمي، يقيد القضاة ويعرفه الناس قبل أن يحتكموا إليه، ويترك هذا القانون خاضعاً للتطور والتعديل بشكل يتوافق مع تغير الظروف الاجتماعية. إن عدم وجود مثل ذلك القانون جعل علماء الدين والفقهاء الممثلين الرئيسيين للشريعة الإسلامية. ولم يكن هؤلاء في معظم الأحوال على اتصال بالسلطة السياسية وذلك لأن هذه السلطة كانت في غنى عنهم، إلا لتزيين مجالسها أو لإظهار رعايتها للدين. كما أن هؤلاء الفقهاء ما كانوا يحتاجون إلى السلطة، إذ إنّ معظمهم كان يجمع بين العمل الحر لكسب عيشه وبين أخذ العلم في حلقات المساجد والتدريس فيها فيما بعد. وهو ما أعطاهم استقلالاً تاماً وحرية مطلقة في التفكير. إلا أن هذا الوضع لم يستمر في القرن الرابع على ما كان عليه في القرنين الثاني والثالث. فقد كثر المتعالمون وسعى السلاطين إلى استقطابهم للتقرب بهم إلى العامة. كما أنهم كانوا يستخدمون نفوذ هؤلاء لدى العامة في إثارة الفتن خدمة لمصالحهم السياسية أو لنشر الدَّعاوة السياسية المؤيدة لهم. وفي مقابل ذلك كان بعض الفقهاء يجدون عند السلطان الحماية والرعاية والحياة الرخوة، إضافة إلى ما يعنيه القرب من السلطان من مكانة اجتماعية - سياسية. وعلى هذا فالعلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية كانت في ذلك الوقت علاقة مصلحة مشتركة وتبادل للمنافع والخدمات. وقد انضم إلى هؤلاء جماعة من الأدباء والكتاب والفلاسفة، حاولوا أن ينافسوا الفقهاء في التقرب من السلطان. وكان عليهم أن يخضعوا للقانون نفسه. ومنذ ذلك الوقت فإن السلطة الدينية اتسعت لتشمل دائرة أكبر تضم الأدب والعلوم والثقافة عموماً. ويمكننا بذلك أن نستخدم كلمة الثقافية لتحل محل الدينية. وبذلك فإن السلطة الثقافية تمثل التأثير الذي كان يمارسه مجموع الفقهاء والأدباء والعلماء في البنية الاجتماعية – السياسية – الثقافية للمجتمع في الحضارة العربية الإسلامية.
إن المجال الروحي للإنسان في هذه الحضارة كان خاضعاً للمفهوم الديني المتسامي. إلا أن الصراعات الدينية كانت توسع من الانقسامات الاجتماعية – السياسية. ذلك أن أياً من التيارات الفكرية والفرق الدينية التي نشأت منذ ظهور الإسلام، وتطورت في جو من التنافس العنيف لم تستطع الانتصار على الأخرى بشكل حاسم.
وكان الحكام يحرصون تدريجياً على إزالة الهيبة الزمنية التي كانت تتمتع بها الخلافة في الضمير الجماعي للأمة الإسلامية. على حين أن إلغاءها كلياً كان يمكن أن يؤدي إلى تمركز النقمة الشعبية وتبلورها، ومن ثم إلى قيام معارضة قوية. وقد حرصوا على إبقاء الصبغة الدينية للخلافة، وسعوا هم أنفسهم إلى إظهار التمسك بالدين والحرص على تطبيق تعاليمه إذ لم يكن من الممكن كسب ود العامة إلا بهذه الطريقة. والواقع أنهم كانوا يسعون إلى قصر الدين على وظيفته الأخلاقية، ويستخدمونه وسيلة للقبول عند الناس.
لقد كان هؤلاء الحكام يدركون أنّ وجودهم على رأس السلطة يشكل تحدياً لمفهوم الخليفة / الإمامة سواء أكان ذلك عند أهل السنة أم عند الشيعة. ولذا فقد كانوا يلجؤون إلى ممثلي السلطة الثقافية في سعيهم لتغطية تلك الحقيقة. أما العامة فقد كان بإمكانهم إصدار أحكام قاسية بحق السلطة التي كانت تحكمهم ولا سيما أنهم ما كانوا يرتبطون بتلك السلطة بأي ولاء أو بيعة. وكانت تلك المعارضة تجد تعبيراً عنها بالقلاقل والثورات والفتن. على حين أن مواقف ممثلي السلطة الثقافية كانت تتراوح بين التأييد للسلطة والدوران في فلكها في مقابل الحصول على مكاسب مادية ومعنوية، وبين المعارضة أو الابتعاد عن مجالس تلك السلطة.
لقد أدت هذه الفوضى السياسية – الثقافية إلى فوضى اجتماعية – ثقافية، فقامت الصراعات بين الأطراف المتنازعة سياسياً وفكرياً. فقد كان المعتزلة يستنصرون ببعض السلاطين ضد الفرق الأخرى، وكذلك فعل أهل السنة ضد الشيعة والشيعة ضد أهل السنة. وكان الحكام في أثناء ذلك كله يستغلون هذا لصالحهم. يقول التوحيدي مصوراً تلك الحالة من الفوضى الثقافية – الاجتماعية في القرن الرابع: "ولما كانت أوائل الأمور على ما شرحت، وأواسطها على ما وصفت، كان من نتائجها هذه الفتن والمذاهب، والتعصب والإفراط، وما تفاقم منها وزاد ونما وعلا وتراقى، وضاقت الحيل عن تداركه وإصلاحه. وصارت العامة مع جهلها، تجد قوة من خاصتها مع علمها، فسفكت الدماء، واستبيح الحريم، وشُنَّت الغارات، وخُرِّبت الديارات، وكثر الجدال، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال، وأصبح طالب الحق حيران، ومحب السلامة مقصوداً بكل لسان وسنان، وصار الناس أحزاباً في النِّحل والأديان"( ).
هذا ما كان عليه حال العلاقة بين السلطتين عند أهل السنة في الدولة العربية الإسلامية. أما عند الشيعة فقد كان الأمر مختلفاً. ونقصد هنا الشيعة الاثني عشرية أكبر فرق الشيعة. وقد رأينا من قبل أنهم كانوا يقولون بالإمامة وليس بالخلافة كما عند أهل السنة. وإذا كانت الخلافة تقوم لدى أهل السنة على الانتخاب الحر أو على طرق أخرى تنص عليها كتب الأحكام السلطانية عندهم، فإن الإمامة هي رئاسة عامة في أمور الدنيا والدين. وبذلك فهي لا تفصل بين السلطة الثقافية والسلطة السياسية، وتقوم على النص كما رأينا، وهو ما يجعل منها أمراً دينياً، لا دنيوياً كما عند أهل السنة، يرتبط بالعقيدة، ولا يكتمل إيمان المؤمن إلا بمعرفة إمامِ عصرِه واتِّباعِه( ).
إن موقف الشيعة الإثني عشرية في عدم الفصل بين السلطتين في شخص الإمام لم يتوقف باختفاء الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن (- 255)، فقد قام مقامه نظام يعتمد على ولاية الفقيه. ففي عصر غيبة الإمام لا تسقط أحكام الدين بل هي باقية ومستمرة، ولا بد ممن يحميها، ويدافع عنها، ويسهر على سلامة تطبيقها، إذ إن الحُجّة لله على الناس باقية أبد الدهر. وإن كان الله تعالى لم يعين شخصاً محدداً للحكومة في زمن الغيبة فإن الصفات التي كانت شرطاً للإمام من صدر الإسلام "إلى زمن الإمام صاحب الزمان عليه السلام، هي كذلك لزمان الغيبة أيضاً، وهذه الصفات التي هي عبارة عن: العلم بالقانون والعدالة، موجودة في عدد لا يحصى من فقهاء عصرنا، لو اجتمعوا مع بعض لاستطاعوا إقامة حكومة العدل الشامل في العالم"( ). إلا أن ولاية الفقيه لا تجعل مقام الفقهاء في مقام الأئمة عليهم السلام، أو النبي ?، لأن الكلام هنا ليس على المقام والرتبة وإنما على الوظيفة( ).
وقد ساعد نظام الهرمية في النظام التعليمي الشيعي في الحوزات العلمية على خلق تماسك فريد من نوعه في التاريخ العربي الإسلامي، فقد كان الشيعة بشكل عام والاثنا عشرية بشكل خاص يشكلون كتلة اجتماعية ثقافية وسياسية دينية يصعب اختراقها أو تفكيكها، على عكس الواقع عند أهل السنة. وهذا ما جعلها غير خاضعة للخلفاء والسلاطين الذين حكموا أهل السنة، ولعل هذا أيضا ما مكّن الشيعة في إيران من النجاح في ثورتهم، وإقامة أول جمهورية إسلامية في القرن العشرين.